سورة طه - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


قلت: {وكذلك}: عطف على قوله: {كذلك نقصّ}، و ذلك: إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وكذلك} أي: ومثل ذلك الإنزال المتقدم، {أنزلناه} أي: القرآن كله، وإضماره، من غير سبقية ذكره؛ للإيذان بنباهة شأنه، وكونه مركوزًا في العقول، حاضرًا في الأذهان، حال كونه: {قرآنًا عربيًّا}؛ ليفهمه العرب، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز، الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر، نازلاً من عند خلاّق القوى والقُدَر. {وصرَّفْنا فيه من الوعيد} أي: كررنا فيه بعض الوعيد، أو من جنس الوعيد، {لعلهم يتقون} أي كي يتقوا الكفر والمعاصي بالفعل، {أو يُحْدِثُ لهم ذِكْرًا}؛ اتعاظًا واعتبارًا يؤديهم إلى الارتقاء، {فتعالى الله} أي: تعاظم شأنه عما يصفه الكفرة، وتهاون العصاة، الذين لم يُحدث فيهم القرآن زجرًا ولا وعظًا، أي: ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله، {الملكُ} لها، النافذ أمره ونهيه، الحقيق بأن يُرجى وعده، ويُخشى وعيده، {الحقُّ} في ألوهيته لذاته، أو الثابت الذي لا يمكن عدمه، أزلاً وأبدًا.
{ولا تَعْجَلْ بالقرآنِ من قبل أن يُقضى إِليك وحيُه} أي وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا، وصرفنا فيه من الوعيد، فَأَمْهِلْ عند نزوله، حتى يقرأه عليك الملك، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه، ويفرغ من قراءته عليك. كان صلى الله عليه وسلم، إذا ألقى جبريلُ عليه الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ، فنهى عن ذلك؛ لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ولأنَّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال: {وقل ربِّ زِدْني علمًا} أي: وقل في نفسك، أو بلسانك: رب زدني علمًا، والمراد: سل الله عزّ وجلّ زيادة العلم به وبأحكامه؛ إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا، يُعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته، وصرفنا فيه من الوعيد، لمن تخلف عن شهوده، بعد كمال ظهوره، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته، أو يُحدث لهم ذكرًا، أي: شوقًا يُزعجهم إلى النهوض إلى حضرته، والوصول إليه، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشيء، أو يتصل به شيء، وإنما الوصول إليه: العلم بإحاطته ووحدة ذاته.
ولا تعجل، أيها العارف، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام، من قبل أن يُقضى إليك وحيه، فإنَّ الواردات الإلهية تأتي مجملة، وبعد الوعي يكون البيان، {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه}، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية، أي: لا يكن همك استعجالَ الواردات أو بقاءها، وليكن همك استزادةُ العلوم ومعرفة واهبها، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم، والوصول للحي القيوم. وبالله التوفيق.


{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة...}
قلت: يقال: عهد إليه الملك، وأوعد إليه، وتقدم إليه: إذا أمره ووصاه.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} الله {لقد عَهدنا} وتقدمنا {إِلى آدم} من غرور الشيطان وعداوته، ووصيناه ألا يغتر به، {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك}، فلا تغتر بنصحه {فَنَسِيَ} ذلك العهد ولم يحتفل به، حتى غفل عنه، واغتر بإظهار نصحه، حتى أكل من الشجرة، متأولاً أن النهي للتنزيه، أو عن عين الشجرة، لا عن جنسها، فأكل من غيرها، {ولم نَجِدْ له عَزْمًا} أي: ثبات قدم، وحزمًا في الأمور، إذ لو كان كذلك لما غرّه الشيطان بوسوسته، وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره، قبل أن يجرب الأمور؛ ويتولى حارها وقارها، ويذوق شرِّيها وأريها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو وُزنت أحلام بني آدم- أي: عقولهم- بحلم آدم، لرجح حلمه»
وقيل: {ولم نجد له عزمًا} على الذنب، فإنه أخطأ، أو تأول، ولم يتعمد، وأما قوله: {وعصى...}؛ فلعلو شأنه وقُربه عُد عصيانًا في حقه، حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ثم شرع في بيان المعهود، وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، فقال: {وإذ قلنا} أي: واذكر وقت قولنا {للملائكة اسجدوا لآدم}، وتعليق الذكر بالوقت، مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث؛ للمبالغة في إيجاب ذكرها، فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه، فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه بالطريق البرهاني، أي: اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه، حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه، فقد أمرنا الملائكة بالسجود {فسجدوا} كلهم {إِلا إبليس آَبَى} السجود واستكبر، أو فعل الإباء وأظهره.
{فقلنا} عقب ذلك، اعتناء بنصحه، وهو العند الذي عهدناه إليه: {يا آدمُ إِنَّ هذا} الذي رأيته فَعَلَ ما فعل {عدوٌّ لك ولزوجك}؛ حيث لم يرض بالسجود لك، {فلا يُخرجكما من الجنة} أي: لا يكونن سببًا لإخراجكما من الجنة، والمراد: نهيهما عن الاغترار به، {فتشقى}: جواب النهي، أي: فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا، من الجوع والعطش، والفقر والضر، وتعب الأبدان في تحصيل المعاش واللباس، فيكون عيشك من كد يمينك.
قال ابن جبير: (اهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يَحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه). ولم يقل: فتشقيا؛ لأنه غلَّب الذِّكَرَ؛ لأن تعبه أكثر، مع مراعاة الفواصل.
قال تعالى له: {إِنَّ لك} يا آدم {أن لا تجوع فيها ولا تَعْرى} من فقد اللباس، {وأنك لا تظمأ}: لا تعطش {فيها ولا تضحى}؛ تبرزُ للشمس فيؤذيك حرها، إذ ليس في الجنة شمس ولا زمهرير والعدول عن التصريح له بما في الجنة من فنون النعم من المآكل والمشارب، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية- مع أن فيها من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى- إلى ما ذكر من نفي نقائضها، التي هي الجوع والعطش والعري والضحو؛ لتنفير تلك الأمور المنكرة؛ ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها، سوى ما استثنى من الشجرة، حسبما نطق به قوله تعالى: {يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البَقَرَة: 35]، وقد طوي ذكرها هنا؛ اكتفاءً بما في موضع آخر، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، ونفي الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يُعْوزون طعامًا ولا شرابًا ولا كِنَّا، بل كلما تمتعوا بشيء مما ذكر، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة.
قال تعالى: {فوسوس إِليه الشيطانُ} أي: أنهى إليه وسوسته، أو أسرها إليه، {قال} فيها: {يا آدمُ هل أدلُّكَ على شجرة الخُلْدِ}؟ أي: شجرة من أكل منها خلد، ولم يمت أصلاً، سواء كان على حاله، أو بأن يكون ملكًا، {و} أدلك على {مُلكٍ لا يَبْلَى} أي: لا يفنى ولا يزول، ولا يَخْتَلُّ بوجه من الوجوه، {فأكلا منها فبدتْ لهما سوآتُهما} قال ابن عباس رضي الله عنه: عَريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما، حتى بدت فروجهما. {وطفِقَا يَخْصِفَان}؛ يَرْقََعانِ {عليهما من ورقِ الجنة}، وقد تقدم في الأعراف.
الإشارة: ولقد عهدنا إلى آدم ألا ينسانا، وألا يغيب عن شهودنا بمُتْعَةِ جنتنا، فنسي شهودنا، ومال إلى زخارف جنتنا، فأنزلناه إلى أرض العبودية، حتى يتطهر من البقايا، وتكمل فيه المزايا، فحينئذ نُسكنه في جوارنا، ونكشف له عن حضرة جمالنا، على سبيل الخلود في دارنا.
قال جعفر الصادق: عهدنا إلى آدم ألا ينسانا، فنسي واشتغل بالجنة، فابتلى بارتكاب النهي، وذلك أنه ألهاه النعيم عن المنعم، فوقع من النعمة في البلية، فأُخرج من النعيم والجنة؛ ليعلم أن النعيم هو مجاورة المنعم، لا الالتذاذ بالأكل والشرب. فلا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ما سواه، نسأل الله تعالى أن يمدنا وإياك بالتوفيق والعناية. اهـ. قال بعض الحكماء: إنما نسي آدم العهد؛ لأنه لما خلقت له زوجته أوقع الله في قلبه الأنس بها، وابتلاه بشهوات النفس فيها، فرأى في وجهها شجرة الحسن بادية، وشهوة الوقاع عليه غالبة. اهـ.
أي: فترك النظر إلى جمال المعاني، واشتغل بحس الأواني، فأفضى به إلى ترك الأدب، ولزمه التعب، فليحذر المريد جهده من الميل إلى الحظوظ، وليكن على حذر من الغفلة حين تناولها، والعصمةُ من الله.
وقوله تعالى: {ولم نجد له عزمًا}، قال الحاتمي: أي: على انتهاك الحرمة، بل وقع بمطالعة قدَر سابق، أنساه ما توجه على التركيب من خطاب الحِجْر. اهـ. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي: وبما أشار إليه من مطالعة القدر يتضح لك قوله عليه السلام: «فحج آدمُ موسى»، وليس ذلك لغيره إن لم يكن مجبورًا ومأخوذًا عنه، وهذا القدر هو الفارق بين ما يجري من المخالفة على الولي وغيره. وقد نبه على ذلك الجنيد بقوله: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا}، فأشار لغلبة القدر وقهره، من غير وجود عزم من العبد. اهـ. قلت: احتجاج آدم وموسى- عليهما السلام- لم يكن في عالم الأشباح، الذي هو محل التشريع، إنما كان في عالم الأرواح، الذي هو محل التحقيق، فالنظر في ذلك العالم الروحاني، إنما هو لسر الحقيقة، وهو ألا نسبة لأحد في فعل ولا ترك، فمن احتج بهذا غَلب، بخلاف عالم الأشباح، لا يصح الاحتجاج بالقدر؛ لأن فيه خرق رداء الشريعة. فتأمله.
وقال في التنوير: اعلم أن أكل آدم من الشجرة لم يكن عنادًا ولا خلافًا، فإما أن يكون نسي الأمر، فتعاطى الأكل وهو غير ذاكر، وهو قول بعضهم، ونحمل عليه قوله سبحانه: {فَنَسِيَ}، وإن كان تناوله، ذاكرًا للأمر، فهو إنما تناول لأنه قيل له: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة...} [الأعرَاف: 20] الآية، فلحبه في الله، وشغفه به، أحب ما يؤديه إلى الخلود في جواره والبقاء عنده، أو ما يؤديه إلى الملَكِية؛ لأن آدم عليه السلام عاين قُرب الملائكة من الله، فأحب أن يأكل من الشجرة؛ ليتناول الملَكِية، التي هي في ظنه أفضل، لا سيما وقد قال سبحانه: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعرَاف: 21]، قال آدم عليه السلام: (ما ظننتُ أن أحدًا يحلف بالله كاذبًا)، فكان كما قال الله سبحانه: {فدلاهما بغرور}. اهـ.
وسُئل ابن عطاء عن قوله تعالى: {هل أدلك على شجرة الخلد}؟ فقال: قال آدم عليه السلام: يا رب لِمَ أدَّبتني، وإنما أكلتُ من الشجرة طمعًا في الخلود في جوارك؟ فقال الله: يا آدم طلبتَ الخلود من الشجرة لا مني، والخلود بيدي وملكي، فأشركْتَ بي، وأنت لا تعلم، ولكن نبهتك بالخروج من الجنة حتى لا تنساني في وقت من الأوقات. اهـ. والحاصل: أنه إمَّا أن يُحمل النسيان على حقيقته، ويكون معه وقوع الأكل بمطالعة القدر وقبضة الجبر، ولا يُعارضه: {ما نهاكما عن هذه الشجرة}؛ لأنه اتفق ذلك صورة وظاهرًا، مع شهود الجبر بانًا، وإمّا أن يُحمل النسيان على الترك، بتأويل أن النهي ليس على التحتم، فتركه لما أمل من جوار الحق وقربه في الأكل، فقدمه؛ لأنه أرجح عنده.
قاله المحشي.
وقوله تعالى: {فوسوس إِليه الشيطان...} الآية، يؤخذ منه سد باب التأويلات والرخص في الأمر الممنوع شرعًا، فإن أُبيح بعضه ومُنع البعض فلا توسعة، فلأن تترك مباحًا خير من أن تقع في محرم، وقد كان السلف يتركون مائة جزء من المباح، خوفًا من الوقوع في المحرم. والله الهادي إلى سواء الطريق.
ثم قال تعالى: {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وعصى آدمُ ربَّه} بما ذكر من أكل الشجرة {فَغَوى} أي: ضل عن مطلوبه، الذي هو الخلود، بل ترتب عليه نقيضه، فكان تأميل ذلك باطلاً فاسدًا؛ لأنه خلاف القدر، أو عن الرشد، حيث اغتر بقول العدو. وقال الكواشي: فعل فعلاً لم يكن له فعله، أو أخطأ طريق الحق، حيث طلب الخلد بأكل المنهي عنه، فخاب ولم ينل مراده. اهـ. وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغواية، مع صغر زلته، تعظيم لها، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها.
{ثم اجتباه ربُّه} أي: اصطفاه وقرّبه إليه، بالحمل على التوبة والتوفيق لها. وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره، مزيد تشريف له عليه السلام، يعني: آدم. {فتاب عليه} أي: قَبِلَ توبته حين تاب هو وزوجته، قائلين: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعرَاف: 23] الآية. {وهَدَى} أي: هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. وإفراد آدم عليه السلام بقبول توبته واجتبائه؛ لأصالته في الأمور، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها. {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} [النِّساء: 34].
{قال اهبطا منها جميعًا}، وهو استئناف بياني، كأنَّ سائلاً قال: فما قال تعالى بعد قبول توبته؟ فقيل: قال له ولزوجته: {اهبِطَا منها} أي انزلا من الجنة إلى الأرض، حال كونكم {بعضُكم لبعض عدوٌّ} أي متعادين في أمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف في الدين. والجمع؛ لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد وفي اللباب: ولما أُهبطوا إلى الأرض ألقى آدمُ يده تحت خده، وبكى مائة سنة، وألقت حواءُ يدها على رأسها، وجعلت تصيح وتصرخ، فبقيت سنَّة في النساء. ولم يزل آدم يبكي حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع، وجرى من عينيه على الأرض جدولان، يجريان إلى قيام الساعة.
وأُهبط آدم على ورقة من ورق الجنة، كان يتستر بها، وفي يده قبضة من ريحان الجنة، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياحُ في أرض الهند، فصار أكثر نباتها طيبًا. انظر بقية كلامه.
{فإِمّا يأتينكم مني هُدًى} أي: هداية من رسول وكتاب يهدي إلى الوصول إليَّ، أي: سيأتيكم مني رسل وكتاب. والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما. {فمن اتبع هُدايَ} بأن آمن بالرسل وبما جاؤوا به من عند الله {فلا يضل} في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة. ووضع الظاهر موضع المضمر يعني: من اتبع هداي، مع الإضافة إلى ضميره تعالى؛ لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من قرأ الفرقان، واتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك لأن الله تعالى يقول: {فمن اتبع هداي}؛ أي: كتابي ورسولي، {فلا يضل} في الدنيا، {ولا يشقى} في الآخرة). وفي لفظ آخر: (أجار الله تابع القرآن أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة). قال ابن عرفة: والعطف بالفاء في قوله: {فإما...} إلخ، إشارة إلى أن العداوة سبب في أن يبعث لهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق، فضلاً منه تعالى، ولذلك أتى بإن، دون إذا المقتضية للتحقيق الموهم للوجوب. فانظره.
{ومَنْ أعرَضَ عَن ذِكْرِي}؛ عن القرآن، أو عن الهُدى الذاكر لي والداعي إليّ، {فإِنَّ له معيشةً ضنكًا}: ضيقًا، مصدر وصف به، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: منزل ضنك وعيشة ضنك. وقرئ: {ضنكى} كسكرى. وإنما كان عيشُهُ ضيقًا؛ لأن مجامع همته، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا، وهو متهالك على ازديادها، وخائف من انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، فإنَّ نور الإيمان يُوجب له القناعة، التي هي رأس الغنى وسبب الراحة، فيحيى حياة طيبة، وقيل: هو عذاب القبر. ورُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو سعيد الخدري: «يُضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا...» الحديث، وقيل: الصبر على الزقوم والضريع والغسلين.
{ونحْشُره يومَ القيامةِ أعمى}: فاقد البصر كقوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً} [الإسراء: 97]. لا أعمى عن الحجة كما قيل. {قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا} في الدنيا؟ {قال كذلك} أي: مثل ذلك فعلتَ أنتَ؛ {أتتك آياتُنا} أي: حجتنا النيرة على أيدي رسلنا {فنسيتَها} أي: عميتَ عنها، وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر قط، {وكذلك اليومَ تُنسى}: تُترك في العمى والعذاب، جزاء وفاقًا. وحشره أعمى لا يدل على دوامه، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم.
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريَم: 38]، فيومُ القيامة ألوان. ثم قال تعالى: {وكذلك} أي: مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات. {نجزي من أسْرَف} وتَعدى؛ بالانهماك في الشهوات، {ولم يُؤمن بآياتِ ربه}، بل كذّب بها وأعرض عنها، {ولعذابُ الآخرة} على الإطلاق، أو عذاب النار، {أشدُّ وأبقى} من ضنك العيش، أو منه ومن الحشر أعمى، عائذًا بالله من جميع ذلك.
الإشارة: قوله تعالى: {وعصى آدمُ ربَّه}، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب، كالتكبر على عباد الله وتحقير شيء من خلق الله، وكالاعتراض على مقادير الله، وعدم الرضا بأحكام الله. قال بعض الصوفية: (أذنبتُ ذنبًا فأنا أبكي منه أربعين سنة، قيل: وما هو؟ قال: قلت لشيء كان: ليته لم يكن). وأما معصية الجوارح، إن لم يكن معها إصرار، فقد تُوجب القرب من الكريم الغفار؛ معصية أورثت ذُلاً وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارًا، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردًا وإبعادًا، ومخالفة آدم؛ حيث كانت الجوارح أورثت قُربًا واجتباء.
والحاصل: أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه، ويحقق له العبودية والانكسار، فهو شرف له وكمال، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد، كائنًا ما كان، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية، أو من الإصرار، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب، ولا تنقصه، بل تكمله، كما تقدم فالتنزيه إنما يكون من النقائص، وهي التي تُوجب البعد عن الحق، لا مما يؤدي إلى الكمال، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء- عليهم السلام- مما صُورته المعصية، ليس بنقص، إنما هو كمال. وكذا ما يصدر من الأولياء، على سبيل الهفوة، فتأمله، ولا تبادر بالاعتراض، حتى تصحب الرجال، فيعلموك النقص من الكمال.
قال الواسطي: العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية، وقوله: {وعصى} أي: أظهر خلافًا، ثم أدركته الاجتبائية فأزالت عنه مذمة العصيان، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله: {فنسي ولم نجد له عزمًا}. اهـ. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: (نعمت المعصية أورثت الخلافة).
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البَقَرَة: 30]؛ فقد استخلفه قبل أن يخلقه، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض، فهو نزول حسًا، ورفعة معنى، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية، فيرتفع قدره عند الله.
وقوله تعالى: {بعضكم لبعض عدو}، هذا فيمن غلبت عليها الطينية الإمشاجية، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون، أخلاء متقون، قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزُّخرُف: 67].
وقوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} أي: داع يدعو إليَّ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم، فلا يضل ولا يشقى، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى.
ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم، وتنكب عن صحبتهم، فإن له معيشة ضنكًا، مصحوبة بالحرص والطمع، والجزع والهلع، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا، فلا يرى إلا الأكوان الحسية، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية. قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني، عند رؤية الأواني، وقد كنتُ بصيرًا في الدنيا ببصر الحس؟ قال: كذلك أتتك آياتنا، وهم الأولياء العارفون، فنسيتها ولم تحتفل بشانها، وكذلك اليوم تُنسى؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه.
قال الورتجبي: ونحشره يوم القيامة أعمى، يعني: جاهلاً بوجود الحق، كما كان جاهلاً في الدنيا، كما قال عليّ- كرم الله وجهه-: من لم يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة. وقيل: عن رؤية أوليائه وأصفيائه. اهـ. وقال القشيري: في الخبر: «مَنْ كان بحالة لقي الله بها» فَمن كان في الدنيا أعمى القلب، يُحشرُ على حالته، يعيش على ما جهل، ويُحشر على ما جهل، ولذلك يقولون: {من بعثنا من مرقدنا}؟ إلى أنْ تصيرْ معارفُهم ضرورية، كما يَتركون التَدبُّرَ في آياتهِ يُتركون غدًا في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم. اهـ.
وكذلك نجزي من أسرف بالعكوف على شهواته، واغتنام أوقات لذاته، حتى انقضت أيام عمره في البطالة، نجزيه غم الحجاب والبعد عن حضرة الأحباب، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه؛ وهم الدعاة إلى الله. ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى؛ لدوامه واتصاله، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب، والتخلف عن حضرة الأحباب. وبالله التوفيق.


قلت: {أفلم} الهمزة للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على محذوف، أي: أغْفَلوا فلم يهد لهم. وعدى الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين، والفاعل مضمونُ {كم أهلكنا}، أي: أفلم يُبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى؟ وقيل: الفاعل ضمير عائد إلى الله. و{كم...} إلخ: مُعلق للفعل سد مسد مفعوله. أي: أفلم يُبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم؟ والأوجه: أنْ لا يُلاحظ له مفعول، كأنه قيل: أفلم يفعل الله لهم الهداية، ثم قيل بطريق الالتفات: كم أهلكنا *** الخ؛ بيانًا لتلك الهداية. و{مِنَ القُرون}: في محل نصب، نعت لمفعول محذوف، أي: قرنًا كائنًا من القرون.
وجملة {يمشون}: حال من القرون، أي: أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم، أو من الضمير في {لهم}، مؤكد للإنكار، والعامل: {يهد}، والمعنى: أفلم يهد لهم إهلاكنا للقرون السالفة، كقوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة، حال كونهم، أي: قريش- ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام-، و{أجل مسمى}: عطف على {كلمة}، أو استئناف، أي: وأجل مسمى حاصل لهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أفَلَمْ يَهْدِ لهم} أي: أو لم يُبين لهم عاقبة أمرهم {كم أهلكنا قبلَهم من القرون} أي: كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم، وهم {يمشون في مساكنهم} إذا سافروا إلى الشام، كأصحاب الحجر، وثمود، وفرعون، وقوم لوط، مشاهدين لآثار ديارهم خاربة، مع علمهم بما جرى عليهم، بسبب تكذيبهم، فإنَّ ذلك مما يُوجب أن يهتدوا إلى الحق، فيعتبروا، لئلا يحل بهم مثل ما حلّ بأولئك، أو: {أفلم يهد لهم} كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم، حال كونهم آمنين، {يمشون} في ديارهم ويتقلبون في رباعهم {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
{إِنّ في ذلك} الإهلاك الفظيع {لآياتٍ} كثيرة عظيمة واضحة الهداية، دالة على الحق {لأُولي النُّهى}؛ لذوي العقول الناهية عن القبائح، التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله، والتعامي عنها، وغير ذلك من فنون المعاصي.
{ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك}، وهو تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى الآخرة؛ لحكمة، لعجلنا لهم الهلاك كما عجلنا لتلك القرون المهلكة، التي يمرون عليها ولا يعتبرون، فأصروا على الكفر والعصيان، فلولا تلك العِدّة بتأخير العذاب {لكان لزامًا} أي: لكان عقاب جناياتهم لازمًا لهؤلاء الكفرة، بحيث لا يتأخرون عن جناياتهم ساعة، لزوم ما أنزل بأولئك الغابرين، وفي التعرض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام- تلويح بأن ذلك التأخير تشريف له صلى الله عليه وسلم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. واللزام: مصدر لازم، وصف به؛ للمبالغة، {وأجَلٌ مسمىً} أي: لولا كلمة سبقت بتأخيرهم، وأجل مسمى لأعمارهم أو عذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم بَدْرٍ، لَمَا تأخر عذابهم أصلاً.
وإنما فصله عما عطف عليه، للمسارعة إلى بيان جواب {لولا}، وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب المعجل، ومراعاة فواصل الآية الكريمة.
{فاصبر على ما يقولون} أي: إذا كان الأمر على ما ذكرنا؛ من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال، بل إمهال، وأنه لازم لهم ألبتة. فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر؛ فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم هالكون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر، أو اصبر على ما يقولون، واشتغل بالله عنهم، ولا تلتفت إلى هلاكهم ولا بقائهم، فالله أدرى بهم. {وسَبِّحْ بحمدِ ربك} أي: نزّهه عما ينسبون إليه، ما لا يليق بشأنه الرفيع، حامدًا له على ما خصك به من الهدى، معترفًا بأنه مولى النعم كلها.
قال الورتجبي: سماع الأذى يُوجب المشقة، فأزال عنه ما كان قد لحقه من سماع ما يقولونه بقوله: {وسبح بحمد ربك} أي: إن كان سماع ما يقولون يُوحشك، فتسبيحنا يُروحك. اهـ. أو: صَلِّ وأنت حامد لربك، الذي يبلغك إلى كمال هدايتك، ويرجح هذا قوله: {قبل طُلوع الشمس وقبل غُروبها}، فإن توقيت التنزيه غير معهود، فإنَّ المراد بقبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل غروبها: صلاة الظهر والعصر، وقيل: العصر فقط.
{ومن أناء الليل} أي: ساعاته {فسبِّح} أي: صَلِّ، والمراد به المغرب والعشاء، وآناء: جمع إنَى، بالكسر والقصر، أو {أناء} بالفتح والمد. وتقديم المجرور في قوله تعالى: {ومن آناء الليل فسبح}؛ لاختصاصها بمزيد الفضل، فإن القلب فيها أجمع، والنفس إلى الاستراحة أميل، فتكون العبادة فيها أشق، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المُزمّل: 6]. {و} سبح أيضًا، {أطراف النهار} وهو تكرير لصلاتي الفجر والمغرب؛ إيذانًا باختصاصهما بمزيد مزية. وجمع {أطراف} بحسب اللفظ مع أمن اللبس، أو يراد بأطراف النهار: الفجر والمغرب والظهر؛ لأنها نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الثاني، أو يريد التطوع في أجزاء النهار.
قلت: وإذا حملناه على التنزيه- وهو أن يقول: سبحان الله، أو: لا إله إلاّ الله، أو كل ما يدل على تنزيه الحق- يكون تخصيص هذه الأوقات بالذكر؛ لشرفها. فقد وردت أحاديث في الترغيب في ذكر الله أول النهار وآخره، وآناء الليل حين ينتبه من نومه، بحيث يكون كلما تيقظ من نومه سبَّح الله وهلّله وكبّره، قبل أن يعود إلى نومه. وهكذا كان أهل اليقظة من السلف الصالح. وقوله تعالى: {لعلك ترضى} أي: بما يعطيك من الثواب الجزيل، بالتسبيح في هذه الأوقات. أو ترضى بالشفاعة في جميع الخلائق، فتقر عينك حينئذ.
وفي صحيح البخاري: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشمس ليس دونها سحاب، فَإِنِ استَطَعْتُم أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غروبِها فافْعَلُوا»، ثُم تَلا هذه الآية: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها}، ففيه ترجيح من فسرها بالصلاة، وفيه إشارة إلى أن الصلاة ذكر وإقبال على الله وانقطاع إليه، وذلك مزرعة المشاهدة والرؤية في الآخرة. وقد جاء في أهل الجنة: «أنهم يرون ربهم بكرة وعشيًا»، هذا في حق العموم، وأما خصوص الخصوص، ففي كل ساعة ولحظة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أفَلَم يَهد لأهل الإيمان والاعتبار، وأهل الشهود والاستبصار، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية، والأمم الماضية، فهم يمشون في مساكنهم الدارسة، ويُشاهدون آثارهم الدائرة، كيف رحلوا عنها وتركوها، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور، وما كانوا عليه من الفُرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم، قد نما ذكرهم، وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم. فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، وأفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا؛ قهرًا، إلى القضاء وسلموا، ففي ذلك عِبَر وآيات لأولي النُهى. لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير، فلولا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب، وأجل مسمى لأعمارهم، لعجل لهم العقاب.
فاصبر، أيها المتوجه إلى الله، المنفرد بطاعة مولاه، على ما يقولون، مما يُكدر القلوب، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار، حتى تغيب في حضرة علام الغيوب، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8